إنه سوق السماسرة

في السوق التجاري حين يتعدى العرض كمية الطلب بمقدار كبير تحصل حالة يشعر المشتري فيها بالمقدرة على إملاء شروطه على البائع، وتسمى هذه الحالة سوق المشتري. وبالمقابل حين يتعدى الطلب كمية العرض تسمى سوق البائع. أن العراق اليوم هو كنز للمشاكل، هنالك الكثير من الإنقسامات والمواجهات، وكل واحدة منها تحتاج الى سمسار للوساطة بين الفرقاء لتحقيق المصالحة. ومكافئة السمسار هي تحقيق النفوذ السياسي على كل الفرقاء، ما يعنيه هذا من الحصول على الفرص التجارية والنفوذ في الأسواق، أي تحقيق مصلحة السمسار في المدى القصير والمتوسط والبعيد. هنالك طلب واسع للسمسرة لدرجة أن بالإمكان تسمية هذه الحالة بسوق السماسرة. أن سوق السماسرة في العراق متعدد الجوانب وغريب، فهنالك الولايات المتحدة كبيرة السماسرة تحاول أن تملي شروطها بطلب العمولة أحيانا بنجاح وأحيانا بالفشل. وهنالك إيران التي قامت بالوساطة بين بعض الفرقاء والحكومة في البصرة مؤخرا. وأيضا هنالك العديد من الدول الأوربية والعربية والعالمية التي تقوم بإستضافة ما يدعى بمؤتمرات المصالحة. وهذه الدول تحاول أن تظهر هذه الإجتماعات بمظهر أعمال الوساطة في سبيل الخير لكنها في نظر الكثير من العراقيين تبدو وكأنها تصرفات ضيوف الشرف في وليمة اللئام، أي أن دافع المنفعة الذاتية لا يمكن إخفائه. أن الوساطة بين الفرقاء العراقيين يجب أن تتم داخل العراق ومن خلال العملية السياسية، والأجدر بالدول المضيفة لمؤتمرات الصلح أن تدعو الى عملية سياسية مستقلة بدل أن تقبل الدعوة لوليمة اللئام..

هنالك مصطلح باللغة الأنكليزية هو ( Consensus) ويعني الإجماع أو التوافق وهو يفيد في شرح ما آلت اليه العملية السياسية في العراق. فالإجماع هو إتفاق عموم الآراء على شرعية القرارات السياسية، وفي أكثر الدول الديمقراطية تقدما يحصل الإجماع كجزء أساسي من طبيعة العملية السياسية، وعموما يحصل بناء على بيانات دقيقة وحديثة للتعداد السكاني. ولا ننكر بأن الإجماع ممكن أن يحصل بدون التعداد في الأوقات التي لا تكون القرارات السياسية المطلوبة تمس التقسيمات السكانية أو حين لا يكون هنالك مسائلة حول أحجام الطوائف والأعراق، وهذه ليست الحال في العراق. والسؤال هو: ما الفرق بين الإجماع بعد التعداد وبدونه؟ والرد هو: الفرق شاسع. فالعملية السياسية بدون التعداد هي كالعمل في الظلام، أي بدون أرضية ثابتة لتقاسم السلطة أو الدخل أو للتخطيط للمستقبل، وهي توفر الشوط اللازمة للسمسرة السياسية والصفقات المشبوهة وهي الدعوة القائمة للتأثيرات والتدخلات الأجنبية. من ناحية أخرى نجد أن التعداد يوفر الردود على الأجوبة العالقة على التقسيمات السكانية، وحيث أن توافر البيانات السكانية الحقيقية لن يثير المشاعر لأنها قابلة للتكرار والتمحيص الدقيق، حينها يقل الطلب على السمسرة السياسية والنقاشات العقيمة وتكون الحوارات السياسية حصرا من إختصاص الناخبين وممثليهم كما ينبغي الحال في الدول ذات السيادة. أي يمكن القول بأن مصاعب تحقيق الإجماع وسوق السماسرة هما النتيجتان الطبيعيتان لفقدان التعداد، ومن النتائج الأخرى هي التزوير وفقدان الأمان وعدم الإتزان في العملية السياسية. كل هذه النتائج قد أهملت من قبل مخططي السياسة في سبيل دعم الأطراف الموالية للولايات المتحدة. أن تعداد السكان سوف يحصل سواء عاجلا أم آجلا، ولكن إذا حصل بدون ضوابط وشروط النجاح فسوف يكون هو أيضا السبب في زيادة الإنقسامات. أن الأوان قد حان لإعطاء التعداد الأهمية التي يستحقها، أي يجب أن يكون تحت إشراف الأمم المتحدة المباشر وبإستعمال مقاييس دولية لتحديد هوية من هو العراقي لكي نضمن عدالة وشفافية النتائج.

Leave a Reply

You must be logged in to post a comment.