نظرية المؤآمرة تدعم هيبة المتآمرين
أن واقعة وفاة المغفور له الملك فيصل الأول لا تزال تشد انتباه العراقيين على الرغم من مرور الزمن، و أعترف بأني كنت أحد الذين وجدوا بعض المصداقية في نظرية المؤامرة التي تقول بأن وفاته قد جائت نتيجة دس السم أو القتل المتعمد من قبل المخابرات البريطانية أو غيرها، لكن الحديث الذي دار بيني وبين جدي تحسين قدري رحمه الله لم يدع مجالا للشك. فقد سألت جدي في أواخر الستينات عما جرى وذلك لعلمي بأنه كان من بين المرافقين للملك حين وفاته. كان أول سؤال: هل كنت في صحبة الملك يوم وفاته؟ قال كنت محتضنا رأسه حينما لفض نفسه الأخير. سألت: هل لاحظت ما يدل على تناول السم أو القتل المتعمد؟ قال لا فالملك كان مريضا، بل أننا ذهبنا الى سويسرة للعلاج وليس للفسحة، وهو كان نحيفا ضعيف البنية طول حياته وأنظر الى أي صورة من صوره تلاحظ ذلك، وكان نحوله في إزدياد وكان هذا أحد أسباب رحلتنا. سألته إذا لماذا يرى الكثيرون بأن وفاته كانت متعمدة؟ قال لأن كلامي هذا لا يبيع الجرائد.. ثم سألته: كانت الشكوك قد أثيرت عن أسباب وفاته في حينها، لماذا لم تشرح الجثة لمعرفة أسباب الوفاة؟ قال لأن الجثمان كان محفوظا في سائل الفورمالديهايد لحفظه من التفسخ ونقله بالطائرة الى بغداد حيث لم تكن الثلاجات موجودة لحفظ الموتى، والفورمالديهايد كما هو معروف يتلف الكثير من مسببات الوفاة، لذا لم يسترجى إيجاد مسببات الوفاة. أما ما نسب الى جدي من مقولة أن الملك قد مات غدرا فليس لنا علم بها، ويرجح إنها قد حرفت أو أختلقت إختلاقا.
وبمناسبة قرب حلول الذكرى الخمسون على الأغتيال الغادر للأسرة المالكة في 14 تموز 1958 وأيضا لأن أحد الأصدقاء الأعزاء قد إشتاط غضبا مني منذ فترة بسيطة وفقد هدوئه المعهود لأننا قد اختلفنا في تفسير واقعة الأغتيال، فالصديق يعتقد أن الواقعة مقصودة ومخطط لها وأنا أعتقد بأن الحظ العاثر والتصرف الأرعن لشخصيات منفذي الإغتيال لعبا الدور الأهم، لذلك أذكر محادثة حصلت أمامي صباح يوم 14 تموز ولن أنساها ما حييت.
صحينا على أصوات الرصاص والمدافع الآتية من جهة قصر الرحاب وفتحنا الراديو وسمعنا ما لم نعهده من بيانات، وكان جدي يومها مسافرا و أحست جدتي بالقلق الشديد فقامت بمكالمة قصر الرحاب وكانت الساعة السابعة والنصف. ردت على المكالمة إحدى الأميرات ولعلها الأميرة بديعة وطمأنت جدتي حين قالت لها بأن العائلة المالكة قد وقعت على التنازل عن العرش وهم الآن في طريقهم لمغادرة القصر والسفر وهم جميعا سالمين ومطمأنين ولا داع للقلق. طبعا لم يدم الهدوء طويلا فقد سمعنا في الأذاعة بعد الساعة الثامنة بقليل بأن العائلة المالكة بأكملها قد أعدمت وخيم على بيتنا أسى عميق.
أن تفسير التاريخ بناء على نظرية المؤآمرة يبدو جذابا لأول وهلة، ووفق هذا التفسير فأن منفذي الأنقلاب بشخص عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قد خططوا ونفذوا إغتيال الأسرة المالكة بسبق الإصرار والترصد، وما يعزز هذا الإستنتاج في رأي البعض هو ما قاله عبد الكريم لأخته وعبد السلام لزوجته حينما عتبتا على الرجلين لقتلهما الملك والنساء الأبرياء، حيث أكدا رواية العمد بكلام عابر. لكن ما أقوله هو: علينا فهم التاريخ بواقع الأحداث والدوافع السائدة في حينها وليس بمقاييس الحاضر والكلام الحرفي، فالإثنان كانا قد إستوليا على الحكم للتو ونكران العمد لواقعة مهمة كهذه يعني أنهما ليسا في موقع السيطرة على الأحداث، أي أنهما كانا بحاجة لهيبة الحاكم ولذلك تركوا الذين صدقوا نظرية المؤامرة والتي هم أبطالها لإستنتاجاتهم التي تخدم مصالحهم. في حين أن المكالمة التي سمعتها تؤكد بأن مجريات الأحداث قد تغيرت عن خططها الأصلية بين الساعة السابعة والنصف والثامنة من صباح ذلك اليوم الأليم، وهذا يدعم سرد الواقعة كما هي في موسوعة ويكيبيديا، والرابط هنا، حيث يميل المؤلف الى وضع المسؤولية على عاتق ضباط شيوعيين دمويين لم يكونوا من بين أعضاء الفوج المهاجم أصلا وتدخلوا في لحظتها لتنفيذ الإغتيال الغادر.
لسنا بحاجة الى نظرية المؤآمرة التي تدعم في صميمها هيبة المتآمرين، وخصوصا في هذه الأيام السوداء التي يفتقر فيها العراق الى الإنعتاق من سيطرة الإحتلال. لقد دعينا الى إشراف الأمم المتحدة على تعداد النفوس والإنتخابات، وهو لا يعني كما يتصور البعض الحكم المباشر لشخصيات تعينها الأمم المتحدة كما كان الحال في لجان مراقبة الحصار، فوجدنا الكثير من الأخوة وقد إهتابوا بقوة الإحتلال ومؤآمراته ولم يشاركوننا في ندائنا. أن استقلال إرادة العراق مرهون بالتعداد الصحيح والأنتخابات الشفافة بضمان الأمم المتحدة، والمصداقية الناتجة عنها هي الوحيدة القادرة على إعطاء القوة والشرعية اللازمة للجانب العراقي في مفاوضاته مع الإحتلال، ونحن نفتقر الآن لما كان يتمتع به الملك فيصل الأول من مصداقية وإستقلال الرأي أمام الإحتلال البريطاني آنذاك .