توقيت الأنسحاب وتداعياته
يتغاضى البعض عن أهمية التوقيت في دفع العملية السياسية في حين أن الأحداث تثبت أن التوقيت هو من أهم العوامل التي تحدد النتائج، فقد رأينا كمثال على ذلك كيف أن توقيت تشكيل الحكومة العراقية بعد إنتخابات آذار مارس 2010 قد تأجل لحين ظهور التحالف الذي يحضى بموافقة دول الجوار. لقد كان التأجيل وليس نتائج الأنتخابات هو العامل الأساسي في تحديد الحكومة الحالي.
ويأتي توقيت الأنسحاب نتيجة لإعتبارات داخلية وكنتيجة فرضت على الأمريكان، بل أن الإنسحاب التام بهذا الشكل لم يكن متوقعا أو متعمدا على هذا النحو لدرجة أن بعض المستشارين تجاهلوا تماما في حزيران يونيه الماضي إمكانية رفض العراق التام للتمديد وتوقعوا خيارات الأستمرار لدرجات مختلفة. ولكن رغم وجود عوامل خارج سيطرة الولايات المتحدة ليس بوسعنا تجاهل أهمية توقيت الأنسحاب الآن وليس قبل سنتان مثلا أو بعد عشرة أعوام. فالآن نجد الربيع العربي في أوج حيويته وبالأخص التحدي الشعبي السوري لسلطة البعث والذي تقف حكومتنا منه بموقف الضد، وهنالك المتابعات الأيرانية والتركية المتزايدة للمعارضة الكردية على الأراضي العراقية وهنالك التدهور الأمني المستمر والدعوات للامركزية الحكم التي لم تسبق من مناطق السنة، كل هذه أمور تشكل من إنسحاب الأمريكان في الوقت الحاضر تحديا شديدا للقوى والأحزاب الحاكمة التي وصلت بمساعدتهم .
والجهتان الأساسيتان اللتان تتأثران بالأنسحاب هما حكومة الإقليم التي لم ترغب بالإنسحاب إطلاقا والحكومة المركزية الواقعة بين مطرقة تحالفها مع التيار الصدري وسندان الجذب الأيراني، وكلاهما لا يحبذ بقاء الأمريكان.
فحكومة الكرد تحتاج للدعم الأمريكي كحاجة الطفل الرضيع لثدي أمه لكن الأكراد وخصوصا طالباني قد أعطى إيران الكثير ولم يستطع أو لم يشأ حليفه البرزاني منعه من ذلك، وهذا يجعل التحدي أمام الكرد لكي يعلنوا عن قيام دولتهم في وقت فقدوا فيه دعم حليفهم القوي، أو فقد حليفهم الإرادة لدعمهم في الوقت الحاضر. ومن المفارقات أنهم قد إستحوذوا على 4500 دبابة من الجيش العراقي بشهادة قائد أمريكي لكنها لن تنفعهم في مواجهة مع القوتان اللتان تشكلان تهديدا حقيقيا: تركيا و أيران في المناطق الجبلية الوعرة. لذا يمكن القول بأن الأنسحاب الذي خلق فرصة لأعلان الدولة الكردية جاء في وقت غير مناسب فقدوا فيه دعم الحليف وفائدة مدرعاتهم.
أما الحكومة المركزية فهي لا تستطيع درء مخاطر الأرهاب والأستمرار بدون مساعدة خارجية وليس هنالك من إرادة للدعم إلا من إيران، لكن زيادة نفوذ إيران تحت الظروف الحالية هو الآخر محفوف بالمخاطر وسوف يدفع بزيادة حدة المطالبات باللامركزية ويظهر الدور الإيراني على المكشوف ويعرضه للمواجهة كقوة محتلة. لكن أكثر التحديات جدية بنظري هو العامل الأقتصادي، من ناحية تعامل الأمريكان والمجتمع الدولي مع العراق سوف يكون أكثر تصعبا ومن ناحية أخرى تأثير العوامل الأقتصادية على المجتمع من الداخل وعلى الوضع الأمني قد يزيد الوضع السيئ سوئا.
أن إستمرار بقاء الأمريكان مع الحصانة لم يعد وضعا مقبولا لكن الأنسحاب الكامل سوف يضع حكومة الأقليم والحكومة المركزية أمام خيارات صعبة لن يمكن معالجتها بالعقلية الضيقة التي سادت الممارسات السياسية في السابق.