لمَ جُن نيتشه؟
فريدريش نيتشه فيلسوف القوة الألماني، قيل عنه أنه شاهد ساعيا يضرب حصانه ضربا مبرحا ويحاول إرغامه على سحب العربة، لكن الحصان أبى أن يتحرك وإستمر الساعي بالضرب مما إضطر نيتشه للتدخل والصراخ الهيستيري بطلب التوقف عن الضرب رحمة بالحيوان المسكين- وقيل أن نيتشه قد جن في حينها من هذه الحادثة التي تصور بوضوح أن القوة بدون سياسة لا تأتي بالنتائج المطلوبة وهو الذي دافع عن إستعمال القوة طيلة حياته كوسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف السياسية وغيرها. هذه هي القصة كما سمعناها في طفولتنا ونعرف الآن أنها قد تكون غير صحيحة تاريخيا لكن رب خطأ شائع خير من صحيح ضائع، وهي تصلح للدخول في موضوع الإكراه السياسي الذي عانينا ولا نزال منه في العراق. فالإكراه يزيل المسؤلية عن الضحية وحتى المحرمات في الإسلام تحل تحت ضغط الإكراه، لكن مشاهد واقعنا السياسي فيها الكثير من التغاضي والتجاوز عن الإكراه وهي المسببات الحقيقية لأفعالنا.
أن إجتثاث البعث فكرة إنتقامية لا يبررها في البداية إلا الرغبة في تنظيف الساحة للقادمين من الخارج لكي تفرغ لهم مناصب إدارية عالية في الدولة كان يشغلها عناصر ذات خبرة وممارسة طويلة كل ذنبها هو الخضوع لإكراه الإنتساب الحزبي وغالبية هؤلاء لم يتعدوا على حقوق الآخرين و لم ينالوا إلا ماهم مستحقون له أصلا بحكم مؤهلاتهم وخبرتهم، سواء كانوا من العناصر العسكرية أو المدنية. أما الآن وبعد إنقضاء ما يزيد على خمس سنوات على تفعيل هيئة إجتثاث البعث أخذ القادمون ما استطاعوا من المناصب العليا وما تلاها و لم يبقى على الفكرة غير أهدافها الإنتقامية، لكننا نفاجأ بين الحين والآخر بمواقف إجتثاثية لا تخدم الإستقرار وغير محسوبة العواقب ويعاد تذكيرنا بها بأن الإجتثاث لا يزال حيا وأن الذنوب لا تزال تحمل بالإنتماء تماما كما كان الدكتاتور يحمل الأقرباء من الدرجة السابعة.
أن أسوأ ما في فكرة الإجتثاث هو إستمرارها للآن، لأن آليتها تعمل بعكس ألية التقادم التي تسمح بتجاوز أحداث الماضي وبناء مستقبل مختلف. فإستمرار الإجتثاث يعني الإحتفاظ بأولوية المحاسبة على الجرائم القديمة والسماح بالتعتيم على الجرائم الحديثة وإهدار الموارد الحالية وأضعاف سلطة القانون في المستقبل.
لولا الضروف الإستثنائية المتمثلة بنفوذ المحافظين الجدد و التي سمحت بتفعيل الإجتثاث ودعمه وهو الذي لا يخضع لرقابة تذكر وهو الذي يحدد الجرم والعقاب، لما إستطاع أن يعمل في وجود حرية الصحافة وإنتقاداتها المستمرة، لذا نرجو أن تحدد إدارة الرئيس باراك أوباما موقفها من أستمرار هذه الهيئة ونأمل أن يكون هذا الموقف مختلفا عن الأدارة السابقة بقبول المسؤولية وليس التملص منها وتحميل مسؤولية إستمرارها على الجهات التي هي أصلا تسفيد من ذلك.