المقاييس بين الدين والسياسة

آبديت رأيَ في مقاييس الدين والسياسة هو أقرب الى الفكر الهندسي أو العلمي أمام مجموعة صغيرة من الأصدقاء فطلب مني الأخ العزيز أحمد اليزدي أن أكتب في هذا الموضوع، وهذه هي محصلة خواطري.

قد نالت مؤخراًً محاضرات الدكتورة الكويتية أسيل العوضي إهتمام مواقع النشاط الإجتماعي لمقارناتها بين المقاييس الأخلاقية والدينية والسياسية، حيث تناولت التناقضات بين الخطاب الشائع للأخلاق والسلوكيات الفردية التي تنحني دائماً لأعتبارات الفائدة الشخصية، والأخلاق هي دراسة معيارية لمقاييس الخير والشر والتعريف الأكاديمي لهده المقاييس هي مسببات الألم والعدالة وقواعد السلوك مثل تحديد الحقوق والواجبات و تحريم القتل والكذب، وهده مواضيع أما أن تكون محسوسة أو متفق عليها من خلال قوانين وضعية ومعايير واضحة. لكن المقاييس الدينية تحدد الأخلاق من خلال الرجوع إلى نصوص وإجتهادات دينية، وهذه وإن إتفقنا على صحتها لكنها تخضع لتفسيرات وفتاوى واسعة ومتناقضة في كثير من الأحيان، ولا يوفر الدين الوسائل التي تؤدي إلى حل هده التناقضات. الظاهرة التي تهمنا الآن هي تعدد الأحكام الدينية التي يمكن إعتبارها جميعاً صحيحة أو أمينة من وجهة نظر أصولية، ومقارنتها مع الأحكام السياسية التي يفترض أن تحكمها المنفعة العامة.

وفي قصة ذات علاقة سمعتها مند زمن بعيد، روى المحاضر الأنكليزي أن طلبته من المنتسبين لهيئة توليد الكهرباء لاحظوا أن قراءات الجهد كانت غير متطابقة تماماً رغم أن أجهزة القياس كانت قد خضعت لتوها لعملية المعايرة، وتسائلوا كيف تكون جميعها صحيحة رغم إختلافها؟ شرح المحاضر الفرق بين القراءة الدقيقة والقراءة الصحيحة. القراءة الدقيقة هي التي تتكرر بقيم متقاربة وقد يكون معدل القراءات بعيدا كل البعد عن القيمة الحقيقية للجهد الكهربائي، أما القراءة الصحيحة آو الأمينة فهي التي تنتشر بصورة متساوية حول القيمة الحقيقية للجهد، والعدادات لها مواصفات للدقة وللأمانة فإذا كانت القراءة في حدود الأمانة فهي صحيحة.

الأخلاق بشقيه الأجتماعي والديني هو مجموعة من المقاييس ذات الأمانة لكنها تفتقد الدقة، في حين أن السياسة إذا إعتمدت مبدأ المنفعة العامة فأنها تخضع لمقاييس دقيقة، لأن ما يحقق المصلحة العامة هو مسار ضيق من السياسات التي يحددها الحزب الحاكم الذي يتم إنتخابه نتيجة لطرح تلك السياسات وإكتساب التفويض الأنتخابي لتحقيقها. أن إخضاع السياسة للدين لا يمكن أن يضيف أي فائدة حقيقية أو يرفع من قياسات الدقة في السياسة، وأن السياسات الصائبة أي كانت وبغض النظر عن إختلافاتها سوف تجد ما يسندها بين الوفرة الوافرة للأحكام الدينية.

وفي ظل الأحداث الجسام في إنتشار دولة داعش التي تدعي الأصالة الدينية وإحتكارها لتفسير الأسلام لابد لنا من محاولة فهم ممارساتها الوحشية في إطاراتها الأخلاقية والسياسية، ‪وبالتحديد فأن الإستناد لأحكام الدين لتبرير جرائم القتل والأغتصاب والعبودية لا يعني أن الأسلام أمر بذلك في ذلك الوقت وتحت تلك الظروف وأن الأديان الأخرى سليمة من هذة الأحكام. ألم يستعمل هتلر رمز الصليب في علم دولته؟ ومنظمات التمييز العنصري والمافيا ورموز الصهيونية هذه جميعا إستعملت الرموز الدينية وتستند لتفسيرات دينية لتعدياتها. أن ظاهرة الأستناد للأحكام الدينية ليست خاصة بداعش ولا تستحق الأهتمام الزائد، وأن دوافع الذين يحاولون الربط بين الأسلام وبين جرائم داعش قد تكون سياسية. فالأحكام الأخلاقية المدينة لداعش لا تتأثر بإدعاءات وعقائد مرتكبي الجرائم، بل أن الظاهرة التي تستحق الأهتمام هي سياسية، وبالتحديد مالذي أدى إلى إنتشار الأفكار الداعشية بين مواطنين هم أصلاً غير متطرفين دينيا. ‬

هده حالة تمثل ما أشرنا له سابقا في أن الأحكام الدينية لا تضيف آي فائدة في فهم الأحكام السياسية وتقييم صوابها أو خطأها، وبالمقابل فأن تحميل الدين أوزار الأخطاء السياسية ليس له تبرير سوى الجهل أو قصد الأسائة المبني على إعتبارات سياسية.

Comments are closed.