آراء متطرفة بمناسبة الذكرى المئوية لمؤتمر فرساي: جاء الإنكليز بفيصل الأول.. وبعدين؟
يبدو لي أن العديد من العراقيين يرددون مقولة أن الإنكليز جائوا بفيصل الأول ملكاً على العراق وكأن الأمر حدث بدون مسببات سوى إرادة الإنكليز بالإستعمار وبالمنفعة الذاتية. سوف أبتدئ الرد بسرد عن الماركسية مما قد يبدو غريباً وليس ذو علاقة بتتويج فيصل الأول لأول وهلة.
لا تزال الماركسية كإيديولوجية تلقى الإهتمام في الأوساط الأكاديمية. سؤل أحد أساتذة الفلسفة عن كيفية التغير في فهم الشيوعية منذ إعلان المانيفستو في أواخر القرن التاسع عشر . قال : كانت الماركسية تنظر للأحداث التاريخة وكأنها نتيجة حتمية للعوامل المادية بنسبة 100% وكأن العوامل الأخرى ليس لها وجود، وأصبحت في أواسط القرن العشرين تفسر التاريخ عند النخبة من المفكرين بنسبة 50%. لكن العوامل المادية تبدو الآن بعد التمعين والتدقيق غير قادرة إلا على تفسير 30% من الأحداث التاريخية، صحيح أنها أهم من العوامل الأخرى لكن أصبحنا اليوم نرى تراكم تأثير بقية العوامل الإجتماعية والتاريخية التي لا ترجع للمادية.
وفي سياق المقارنة بين حداثة الفهم وأصوله القديمة لا يسعني سوى الرجوع إلى مجادلات الراحل الدكتور علي الوردي في الخمسينات من القرن الماضي. علي الوردي قارن بين الفكر الحديث الذي تبناه والذي يتقبل بتعدد الأسباب للأحداث والظواهر الإجتماعية وبين النظرة البدائية التي تسود في مجتمعاتنا العشائرية والتي ترجع الأحداث والظواهر لسبب واحد. فمثلاً ذكر في مقدمة كتابه “مهزلة العقل البشري” عن ناقديه : يجب أن نلتفت إلى ناحية غفل عنها إخواننا من أرباب التفكير القديم، فهم يدرسون الظواهر الإجتماعية على أساس التعارض بين الوجود والعدم فيها. وهذا ما يعرف عندهم بقانون “الوسط المرفوع”. والباحثون المحدثون لا يؤمنون بهذا القانون. فليست عندهم ثنائية منفصلة يتراوح الشئ فيها بين الوجود والعدم. وهم حين يدرسون أية ظاهرة إجتماعية يراعون فيها نسبة التزايد والتناقص. فالإنحراف أو البغاء أو الجريمة أو ما أشبه من المشكلات الإجتماعية لا تنشأ من سبب واحد. وليس هنالك من يستطيع القضاء عليها قضاءً تاماً.
وأنني لا أبتدع أمراً جديداً حين أدعو للنظر بما جاء بفيصل الأول على طريقة علي الوردي، وما أنا إلا سائر على نهجه وطريقتة الحديثة في فهم الأمور والأحداث السياسية.
يردد “إخواننا من أرباب التفكير القديم” بأن الإنكليز جائوا بفيصل الأول بإعتبار أن هذه حقيقة لا يجوز نقاشها. طبعا هذا الطرح هو تجسيد ثنائية الوجود والعدم بعينها، فالأنكليز بنظرهم جائوا بفيصل بإرادتهم ولأسبابهم التي هي منفعية بحتة وهذا يكفي عندهم للإقتناع، ولا يوجد عند أرباب الفكر القديم ما يستحق الذكر من مسببات أخرى وكأن هذا القرار جاء بلا خلفية تاريخية أو من العدم. وليس بوسعي الإدعاء بأن الميس بل مثلاً لم تكن أحد أهم الداعين لولاية فيصل الأول، وبالتالي فقد كانت سبباً مباشراً لإنتقائه من بين المرشحين الآخرين، لكنني أتسائل عن تأثير الأحداث التاريخية والعوامل الأخرى التي ساهمت في نجاح ترشيحه وفشل الآخرين؟
ليس من عادة الأحداث التاريخية أن تأتي بطفرة، أي منفصلة عما سبقها، وإنما تحصل غالباً نتيجة لتراكمات وإستمرارية لأحداث سابقة. والنظرة التي تستشهد برسائل الميس بل كنقطة بداية ليست كافية لتفسير ما حصل بعدها بفترة قصيرة. فتيارات القومية العربية تعود لأواخر القرن التاسع عشر ومركز الأمير فيصل القيادي في هذه التيارات كان واضحا قبل بداية الحرب العالمية الأولى، وقيادة الجيش العربي الذي قاتل إلى جانب الحلفاء كانت للأمير فيصل بلا منازع. ودخول الوفد العربي مؤتمر فرساي في عام 1919 كان إعترافاً بمساهمة الجيش العربي القتالية وبقيادة الأمير فيصل له.
لقد دخل الأمير فيصل مؤتمر النصر للحرب العالمية الأولى بالإستحقاق القتالي وتوج ملكا على سوريا وبعدها على العراق بالإستحقاق القتالي، وهذه الحقيقة هي أعمق من إدعاءات أرباب التفكير القديم ودعاة نظرية المؤامرة، الذين أعطوا بريطانيا قدرات أسطورية خارقة ولم يتركوا هامشاً للإرادة العربية.