الزعيم المثالي للعراق
إستوقفتني مقالة كتبها فهمي المدرس في 1931 وأشار لها نبراس الكاظمي تقارن بين إنجازات مدحت باشا والي بغداد في 1869 وبعدها لثلاث سنوات وما حققته الملكية خلال العشر سنين الأوائل لحكمها في العراق وقال في وصف دهاء مدحت باشا:
“تتلاشى أمامه الصعاب ويستوى عند صاحبه الموت والحياة، فيحتقر اللذائذ ويركب الأخطار ويأتي بالخوارق والمعجزات فمن تكييف وتجديد وأيقاض الى تكوين وإنهاض وإسعاد يحاسب على الأنفاس المعدودة ومن نفسه عليه رقيب عتيد..وما الطعام والشراب والنوم والحركة -بإعتقاده- إلا وسائط للقيام بهذه الواجبات..فلا تستهويه الشهوات ولا تغره السمعة ولا تخامر عزائمه المنة. يقنع بالبلغة من العيش، لا يريد جزاء ولا شكورا.
يأتمر عقله الرزين ويستشير ضميره الطاهر ولا يخضع لغير الحق والعدل فيبعث من الأموات أرواحا تصارع الأقدار ويطوي الزمان والمكان طي السجل للكتب. ذلك هو المثل الأعلى وذلك هو (مدحت باشا) أبو (الأحرار). والفرق بين المثلين الأعلى والأدنى هو أن الأول يعيش لغيره والثاني يعيش غيره لأجله، والأول مطبوع على الخير والصلاح والثاني مفطور على الشر والفساد.”
لم تحفزني المقارنة مع المغفور له فيصل الأول فهو قد بنى دولة المؤسسات المدنية وعمل من أجل العراق المستقل وما نقد المدرس إلا شهادة تقدير لعصر ساد فيه المخلصون، لكنني وجدت أن تعريف الزعيم المثالي في ذلك العصر لا يناسب متطلبات عراق ما بعد الإحتلال، فقد توالى الحكام منذ حكمت باشا مرورا بالعهد الملكي ثم الجمهوريات وكان من بين الحكام الكثيرين من الذين أسسوا المستشفيات وساعدوا الفقراء ونظموا الجيش وثبتوا الأمن، تماما كما عمل مدحت باشا لكنهم لم يزيدوا عليه بإرساء مبادئ التعاقب السلمي للسلطة والشفافية التي تؤدي الى محاسبة المسيئين في إستغلال السلطة، فالمبدأ المتبع حين يستحوذ أحدهم على وزارة أو وظيفة عالية هو: أنا جئت بذراعي ولن أترك منصبي إلا مرغما. فالزعيم المثالي عند جيل المدرس هو ملك في طيبته ومثال إفلاطوني ثابت ولا يوجد شيئ أو أحد يحاسبه لكن الزعيم المثالي في القرن الحادي والعشرين يتقبل المحاسبة و قوته تتغير وتستمد من سمعته و شعبيته عن طريق صناديق الإقتراع.
لابد أن يقودنا ما سبق للمقارنة مع ما نراه ونقرأه من أحداث وسياسات حكومية في الوقت الحاضر، نرى أن الحكومة تعمل في إطار أبدي مطلق لا يقبل المحاسبة ولا المعارضة، وهي في مخيلة روادها مثال الخير والشجاعة تأتي بالخوارق والمعجزات ويتبعها المقلدون لحكمتها، لكنها في الواقع تعيش في إطار الماضي وتتبع وصفات في الحكم عفى عليها الزمن من شراء الذمم والإكراه والفساد وثبت فشلها أمام علوم وتكنولوجيا الإتصالات في العصر الحاضر.