الحرية النسبية: رؤية جديدة لواقع قديم

كنت منذ بضعة أسابيع في جلسة معروفة لمتقاعدين عراقيين في عمان وكان المتحدث رئيس تحرير سابق لصحيفة يومية عراقية، كان موضوع حديثه مستقبل الواقع السياسي في العراق وكانت أطروحته أنه من المستحيل إستعادة أي من الأنظمة السابقة التي خلقتها الظروف المعاصرة لها والتي لا يمكن أن تحصل مجتمعة في وقت لاحق. ثم تحدث عن ثورة الأتصالات والتي من الممكن أن تؤثر على مجريات الأمور السياسية بعد أن قلبت الواقع الأجتماعي رأساً على عقب,.

تساؤلاتي عن الموضوع كانت حول تأثير الإنترنت في جعل الساحة السياسية متساوية أمام التيارات المتعارضة ومفتوحة أمام جميع الأفكار بحيث لن يتمكن نظام الحكم من إستبعاد المعارضة كما كان الحال في السابق. وحينما فسرت هذه الفكرة بأننا لن نتمكن من إستبعاد الأفكار الداعشية إسوة بجميع الأفكار المتطرفة الأخرى وبأن المجرمين من الدواعش ومن غيرهم يحاسبون على جرائمهم فقط ولن يمكن إدانة الباقين لمجرد الإنتماء رفض المتحدث وبعض الحضور هذه الفكرة.

بدا لي بأن الجمع قد قبل ضمنا بالصمت عن المجرمين المنتمين لأتجاهات أخرى لكن الإستثناء والإستبعاد لم يشمل سوى الدواعش.

وفي نهاية الجلسة عبر أحد الأساتذة المحترمين عن خلاصة الفكرة كما بدت له بأنها تتطلب درجة عالية من التطور الأجتماعي وإحترام حقوق الأنسان والذي ليس له مثيل إلا في بلد متقدم كألمانيا لذلك فهو لا يصلح لبيئة مثل العراق.

أن ظاهرة التجريم بالأنتماء تنتشر بين الأفراد في جميع المجتمعات لكنها مقبولة بشكل أوسع في العراق وحتى بين النشطاء والحقوقيين الذين هم من باب أولى أن يكونوا على وعي بمبادئ حقوق الأنسان وعمل القوالنين الأساسية التي تجرم على الأفعال وليس على الأفكار والنوايا والإنتساب.

لكن توقعاتي لا تعتمد على المفاهيم الأخلاقية الحديثة التي قد لا تجد من يتقبلها في المجتمع العراقي المضطرب وإنما على ملاحظة واقعية لتاريخ منطقتنا. فالعراق الذي كان المهد الأساسي للعديد من الأديان منذ آلاف السنين لا يحتاج لتنظير غربي لنظام الفيدرالية من أجل أن يفهم مبدأ “لا تشتم إلهاً لا تعبده”، وأن ممارسةالعقائد الدينية التي كانت آمنة في أماكن تواجدها وبين من يؤمنون بها يمكنها أن تشمل الممارسات السياسية في القرى والمدن ذات الغالبية المتعاطفة مع أفكارهم وبدون أن تفرض أفكارهم على مناطق الآخرين.

لا تشتم إلهاً لا تعبده

أن ما أدعو له هو حرية التعبير النسبية، أي أن الأفراد يتمتعون بحرية التعبير حسب مناطقهم وليس في جميع أنحاء الوطن بمقاييس موحدة، وحينما أتوقع حرية التعبير لداعشي لا أعني أن له الحق في نشر أفكاره المسمومة في مدينة كربلاء مثلاً، وإنما في مدينة إفتراضية يسمح مجلسها المنتخب بالتعبير عن هذه الآراء ويكون من يوظفه مسؤولاً عن حماية هؤلاء الأفراد، وحرية التعبير لا تخص الدواعش لوحدهم وإنما تشمل جميع الأتجاهات والمقدسات الموجودة أصلاً والإتجاهات الجديدة التي تتبناها مجموعات بحد أدنى من النفوس والمساحات، بما في ذلك من لا يشاركون غالبية المواطنين بالقيم والأخلاقيات، كالذين يتبنون مبادئ ولاية الفقيه والملحدين والمتطرفين من كل جانب. وقد يفهمها البعض بأنها نوع من الفيدرالية أو اللامركزية أو العشائرية، وقد تكون كذلك لكنه لا يمكن النكران بأنها الطريقة العراقية الأصيلة التي كانت متبعة عموماً وسائدة في أوقات السلام. وقد يعترض البعض الآخر ويتسائل عن مصير من يقوم بتدنيس المقدسات المحلية وهو من بلدة معادية، والرد هو في إحتساب العمل إستفزازاً وإجرامياً في محل حصولة.

مسألة حرية التعبير النسبية هي ذات ضرورة إقتصادية وواقعية:فإستبعاد المعارضة أصبح يكلف جهوداً إدارية وأمنية لا يستطيع دفعها إلا نظام دكتاتوري على الطريقة القديمة، مما يعني أن الإستبعاد لا يمكن أن يكون سوى حل قصير الأمد، وبأمد متزايد بالقصر مع إزدهار ثورة المعلومات وتلاشي الحدود أمام إنتقال الأفكار في داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات العالمية.

Comments are closed.