معنى أن الخلل هيكلي
لا عتب على كلام الذين يمارسون جلد الذات في مقالاتهم عن مجتمعنا المنهار، وفيهم الكثير من المثقفين ذوي التحصيل الدراسي العالي، الذين يلومون الأفراد لضعف الأخلاق والجشع والقسوة، فالمظاهر واضحة والإنحطاط مرتسم على وجوه الفاسدين. والنصائح تأتي بالإلتزام بالتعاليم الدينية وبالتقاليد والشرف والأخلاق والثقافة، وهذه جميعا من صفات الفرد التي يكتسبها من والديه أو مدرسته أو معارفه المقربين. لكنها تبقى محصورة في سلوكيات الأفراد وطرق تفكيرهم وليس في أسباب هيكلية كغياب مؤسسات الدولة وإنحياز القضاء وتسييس الوظائف وفقدان العدالة في محاسبة الفساد.
وليس الإنتباه الزائد للأسباب الأخلاقية والفردية محصور في العراق والعراقيين فقد إنتشرت في وسائل الإعلام حكاية ذات صلة، والسرد كان حول خبير إقتصادي في دولة أفريقية كثر فيها الفساد، أشار الخبير على حكومتها أن ترفع مستوى الدخل للأجهزة الأمنية والموظفين المرتشين بحيث لا تكون حاجة الأفراد للمال هي الدافع والذريعة لقبول الرشوة، وكانت المفاجئة أن المرتشين لم يتوقفوا عن تلقي رشاويهم بعد زيادة رواتبهم بل أصبحوا يطالبون بمبالغ أكبر. وفشل الخبير في في منع الفساد عن طريق معالجة الحوافز الفردية بعد أن كلف دولته الفقيرة المال الكثير.
لكن البرهان فينا ونحن نتنقل بين البلدان بحثا عن الإستقرار، فالعراقي أو السوري أو العربي الذي عاش جل حياته في محيط فاسد لا يستمر فساده حين يغادر إلى بلد الهجرة، ولا ينشئ أبنائه في المهجر على الفساد ولا يفاخر وينصح الآخرين بالسرقة، والإحصائيات لا تجد فروقات مسيئة تخصنا نحن وتصرفاتنا ولا يشترك فيها غيرنا من المهاجرين. والأهم من ذلك نجد العكس، فالأمريكي أو الأوربي حين يحل بيننا نجده وقد تحول إلى سارق ومرتشي وكذاب والسبب بسيط وواضح: لا يوجد حساب ولا قضاء وإن وجد فسوف يطبق في الخارج في بلد الأجنبي الأصلي وليس في العراق.أو بمعنى أن العامل الأهم في سلوكيات الأفراد ليس في أخلاقياتهم وإنما في فعالية مؤسسات الدولة، أي في هيكل المجتمع الذي يعيشون فيه.
الخلل هيكلي تعني أن أشرف الناس حين يعاشر فساد بغداد سوف يكون منهم ويتصرف مثلهم في قبول الرشاوي إذا لم ينصرف عنهم وعن سبلهم. وأن الذي لا يخشى العقاب في العراق سوف يتأكد وبسرعة بأنه لن يتمكن من الإفلات من المسائلة في بلاد المهجر.