الدقة والمصداقية في مقاييس الدين والسياسة

ملخص

تعمل أجهزة القياس عموماً على تحديد قراءة الكميات الطبيعية بدقة ومصداقية، فالمحرار يقيس الحرارة والفولت ميتر يقيس الفولتية ومشتقاتها بدقة ومصداقية، وهذه تعتمد على الصفات الطبيعية للحرارة أو الفولتية من ناحية وحسب مواصفات جهاز القياس من ناحية أخرى.

كذلك فأن جميع المجالات العلمية والإجتماعية والإنسانية التي تدعي الموضوعية تخضع في مقاييسها لما يوازي معاني الدقة والمصداقية لكن بمسميات مختلفة، مثل الثقة والسريان أو المصداقية والصحة. ويتم تقييم درجة الدقة والمصداقية بالمجالات الإجتماعية والفردية بالإستعانة بالقرائن والأدلة القولية التي تشير أما إلى المصداقية أو للدقة في سرد الأحداث.

والتساؤل الذي يطرحة هذا المقال هو: لو نظرنا للإنسان، فرداً أو مجتمعاً ، كأداة للقياس في مجالي الدين والسياسة فماذا سوف نرى من إختلافات في الدقة والمصداقية؟
تتناول هذه المقالة تعريفات الدقة والمصداقية ثم تسرد بعض القرائن والأدلة القولية ذات العلاقة بالمقاييس الدينية والسياسية.

تتوصل بإستنتاجات المقالة إلى أن الدين عموماً هو مقياس شديد المصداقية لدى المؤمنين به لكنه ضعيف الدقة في المقارنة بين مباح ومباح أو محرم ومحرم، في حين أن السياسة على العكس فهي توفر مقاييس ضعيفة المصداقية لكنها تدعي الدقة في تحديد مقادير الفائدة وتوقيتها، لذا فأن الدين والسياسة يختلفان قياسياً وليس هنالك جدوى في جمعهما أو المقارنة بينهما.

تستند إستنتاجات هذه المقالة على قرائن إسلامية لكن هذه القرائن ليست محصورة بالإسلام ولا بأي دين، فالقرائن مناسبة لجميع المشتركات في المقاييس الأخلاقية التي توفر المرجعية بين الحق والباطل أو الخير والشر ببراهين مطلقة، ولا يمكن بأي حال إعتبار الآراء المطروحة جزء من الفقه أو إجتهاداً يعتمد على مصداقية النصوص الإلهية.

مقدمة

يقيس الفولت ميتر الفولتية بقراءات قد تختلف عن بعضها البعض بمقادير صغيرة، ويتسائل المهندسون الجدد عن هذه الإختلافات: أي منها الصحيح وأي الغلط؟ ويأتي رد الذين أكثر خبرة بأن القراءات جميعها صحيحة لأنها بحدود الدقة والمصداقية التي تنص عليها مواصفات الأجهزة. ويقوم المهندس ذو الخبرة بشرح ماهية الدقة والمصداقية والفروق بينهما. فإذا إفترضنا بأن هنالك مقياس مطلق يحدد القراءة المثالية كهدف السهم وأن علينا أن نحدد دقة ومصداقية الرماة فأننا سوف نجد نوعين من توزيع الأخطاء التي يرتكبها الرماة: أما أخطاء تنتشر حوالي الهدف بصورة متعادلة، وهذه هي الإصابات ذات المصداقية، وأما أن تتكرر الإصابات في منطقة صغيرة بعيداً عن الهدف، وهذه هي الإصابات الدقيقة لكنها تفتقر للمصداقية.

شرح الفروق بين المقاييس ذات الدقة والمصداقية: لاحظ المقارنة في إصابة الهدف بين الدقة العالية والمصداقية العالية

لا يترتب أي ربط بين الدقة والمصداقية، فقد نجد أن أحد أجهزة القياس يعمل بدقة عالية لكن بمصداقية منخفضة، لكن جهاز آخر يعمل بالعكس، أي بدقة منخفضة ومصداقية عالية.
والدقة لها حد أعلى مما بالإمكان تحقيقه إعتماداً على خصائص المقاييس ذاتها، فالفولتية أو الجهد الكهربائي مثلا من الممكن قياسه بدقة أعلى من الأمبير أو التيار، ومن مجموع المقاييس الفيزيائية نجد أن مقاييس الزمن لها أعلى درجات الدقة، لذلك نجد أن اجهزة القياس الألكترونية المتقدمة تؤدي عملها في تقييم الكميات المختلفة رجوعاً إلى مقاييس الزمن، فتقييم الكميات النوعية من المواد الكيماوية مثلا يقاس بالمقارنة مع الطيف وهذا يرجع إلى مقارنة الجهد ومنه إلى مقارنة فترات زمنية ترتبط مع مواقع على الطيف.

المرادفات

تحتوي جميع المجالات العلمية على مقاييس مختلفة للدقة والمصداقية، ففي مجالات العلوم السياسية والإجتماعية والبحوث التاريخية التي تدعي المنهاج العلمي تقاس مصادر المعلومات من نواحي الدقة والمصداقية: من ناحية دقة المعلومات من حيث المقارنة بين المصادر المختلفة ومن ناحية أخرى فأن مصداقية المصدر تقيم من حيث تكرار الروايات المنسوبة للمصدر التي يثبت صحتها.

وكل مجال للبحث والدراسة له مفرداته التي تعكس مفاهيمه وله مرادفاته، ومن مرادفات الدقة: الضبط، الثبات، الإستقرار، الإحكام


Resolution, Precision, Exactitude, Stability, Reliability

ومن مرادفات المصداقية: الأمانة، السريان، الصحة، الصلاحية

Accuracy, Validity, Credibility, Integrity

ومن مرادفات المصداقية: الأمانة، السريان، الصحة، الصلاحية لذلك يوصي البعض بألا يعتمد على تفسيرات القواميس والمراجع اللغوية في الفصل بينها.

سوء إستخدام المصداقية

يستغل البعض من ذوي الآراء المسبقة ضبابية التفريق بين الدقة والأمانة لكي يدعوا الموضوعية في عرض آرائهم، وذلك عن طريق مراعاة الدقة لمصادر منتقاة بعناية لكنها تفتقر للمصداقية، حيث أنها تؤيد وتدعم رأي الكاتب.

والأمثلة عديدة، فبعض الناشطين في العلوم السياسية يتبعون مصادرهم وإقتناعاتهم المسبقة وبعض الإقتصاديين والباحثين في العلوم الإجتماعية لهم صبغاتهم ومصادرهم المفضلة، ومن الباحثين في التاريخ ممن لهم قناعاتهم المسبقة والتي قد تغذيها أفكار شعبية شائعة من قبيل نظرية المؤامرة ليصبحوا مجرد مسوقين لمواضيع تستجذب أعداداً من القراء أو المشاهدين وتحقق ربحاً أكثر لهم ولمموليهم.

وجميع هذه الأمثلة قد تكون بشكل ما ممارسات سياسية أومصلحية تتم بالقياس الدقيق لكن باختيار المصادر التي تعزز وجهة نظر الباحث المتحيز والتي تشكل معا مجموعة من المقاييس الدقيقة المتقاربة لكنها بمجموععها ضئيلة المصداقية.
ولو قبلنا بأن القرارات السياسية والدينية هي كميات تضع نفسها أمام الإنسان وعليه أن يحددها بدقة ومصداقية حالها حال أجهزة القياس العلمية فماذا سوف يرى من إختلاف في المقاييس؟

جذور المقاييس بين إفلاطون وآرسطو

سوف أحاول الآن الرجوع إلى مفاهيم فلسفية قديمة لعلها تحدد المشتركات وتسمح بتعميم المعاني إلى مجالات السياسة والدين.
تدعى فلسفة إفلاطون للطبيعة بنظرية المثل أو النماذج، حيث أن هنالك عالمان مختلفان: الأول العالم الظاهر المحسوس المتغير المتكون من مكونات صلبة، و الثاني الغير مرئي الثابت المتكون من مكونات مثالية لا يمكن فهمها إلا بالمنطق المجرد والذي يشرح الحقيقة الثابتة وراء الظواهر المحسوسة الدائمة التغير.

أي أن المعلومات تسير من الأعلى حيث المثل العليا إلى الأسفل في إتجاه الواقع المتغير لتخلق مقارنة بين الحقيقة الثابتة المفترضة البعيدة وبين الواقع المتغيرالصلب المحسوس، وهذا إتجاه إستنتاجي يستدعي وجود النظرية لكي يتجه نحو إثباتها أو دحضها، وهو مقارنة بين حاضر ملموس ومثال يحتوي على فرضيات زمنية تتعدى مراحل الإحساس المباشر. والتماثل واضح بين الإفلاطونية ومفهوم المصداقية، حيث درجة التقارب بين أحداث الحاضر والمثال الكامل يؤدي إلى مقياس المصداقية

أما آرسطو فله فلسفة الطبيعة التي هي مصدر أو سبب الحركة والثبات والتي إليها ترجع الأحاسيس الملموسة بدون الحاجة إلى فرضيات مسبقة. أي أن المقارنات تكون بين أحداث الحاضر وتسري المعلومات من الواقع إلى المشاهد من أجل تكوين نظرية قابلة للإثبات أو الدحض. وهذا إتجاه عملي تجريبي إستقرائي يتم فيه إرسال المعلومات من الأسفل إلى الأعلى على عكس الإفلاطونية.

أي أن فلسفة آرسطو تمثل مقارنات بين حاضر وحاضر آخر بدون الحاجة للرجوع إلى فرضيات مسبقة، وهنا يكون التشابه مع ممارسة السياسة بمفهوم مكيافيللي حيث تتخذ القرارات بناء على مقارنات البدائل على أساس العائد أو المنفعة وتوقيتات حصولها.
ورغم أن هنالك فروق في المعاني لكن كل هذه المفردات تشترك في أن الدقة ومرادفاتها هي مقارنة بين حاضرين في حين أن المصداقية ومرادفاتها هي مقارنة بين حاضر ومثال يخضع لإفتراض الديمومة في الزمان.

مقاييس الدين

أن فرضية هذه المقالة بإختصار هي: أن مقاييس الدين هي ذات مصداقية عالية لكنها ليست دقيقة، في حين أن السياسة هي ذات مقاييس دقيقة لكنها تفتقر للمصداقية. من البديهي أن كلا من الدين والسياسة لا تعرض مقاييسها على شكل شاشة رقمية لكن سوف أشير إلى قرائن وأقوال وأحداث قد نشرت أو مرت أمامي لغرض دعم الفرضية، ولا أدعي المصداقية في ذلك لكني على ثقة بأن القارئ اللبيب سوف يستطيع إضافة ما لديه من مشاهدات في نفس السياق.

والسياقات التي سوف أستشهد بها تظهر أن الأحكام الدينية صحيحة دينياُ رغم الأختلافات الواسعة في تفاسيرها، أي أنها تتوزع حول نقطة الهدف بالتوازن، فهي قريبة تارة وبعيدة تارة أخرى للتفسير الذي قد نعتبره مثالياُ، لكنها في المحصلة متعادلة وجميعها لا يمكن مغالطتها بالرجوع للدين.

ومن القرائن المساندة لفكرة إرتفاع المصداقية في مقاييس الدين مع إنخفاضها في الدقة، يتبادر للذهن أولا المقولة المنسوبة لعلي بن أبي طالب (ع) القرآن حمال أوجه، لا تجادلهم بالقرآن..والمعنى واضح فكلام الله كله صحيح لكن التفاسير تختلف، ثم النص القرآني “لا إكراه في الدين” والحديث الشريف “إختلاف أمتي رحمة”، فالتعددية في التفسير مباحة أو هي من صميم الإسلام والكل بإمكانه أن يكون مفسراً وله رأي قد يختلف عن البقية لكن الفروق الدقيقة تكمن في المنفعة أو العوائد والمواقيت، فكل تفسير له منتفعون وأوقات مناسبة. لكن وبالمقابل فأن الإقصاء أيضاً مباح والأمثلة التي تحث على إستبعاد الآخرين كثيرة. لذلك فأن الخيار بين الإنفتاح والإنغلاق في الحكم لا يخضع في النهاية لإعتبارات دينية وإذا إدعى أحدهم بغير ذلك فقد إفترى على الدين وسوق لنفسه وعمل لمصلحته وليس للآخرين.

والأديان السماوية عموماً لا تختلف جذريا عن الإسلام ففيها وحدة في المصادر لكن تعدد في التفاسير. ومما يدعم فرضيتنا ما قاله الفيلسوف نيتشه بإختصار: المسيحية هي إفلاطونية الجماهير.

ولا ينبغي الحكم على إفلاطونية الدين بأنها عامل ضعف أو نقص، بل العكس فتعدد التفاسير يسمح بإستمرار مصداقية الدين كمقياس إخلاقي. فالأخلاق تحدد القيم والقيم تحدد سلوك الأفراد والمجتمع، والسلوك يتغير بتغير البيئة، فالسلوك المساعد على البقاء في بيئة أو حقبة قد يكون مدمراً له في بيئة أو حقبة أخرى. وإذا لم يسمح بتعدد التفاسير فهذا حكم الزوال على المجتمعات التي تتبع المقاييس الإفلاطونية الفاقدة للدقة. ومن أكثر الأمثلة بلاغة ما دونه علي الوردي في “وعاض السلاطين”، حيث يفسر الوعاض جميعا تملقهم وتزلفهم للسلاطين بالرجوع إلى نصوص دينية، وحيث أن سياسات الخلفاء الراشدين تختلف بعضها عن بعض، وجميعها صحيح دينيا لكنها تناسب ضروف الحقبة المعاصرة لها وتعالج أشكال مختلفة من التهديدات بما يناسبها من مواجهات.

وما ينطبق على الدين ينطبق على المقاييس الإخلاقية والقانونية والتي هي مقاييس إفلاطونية تعتمد على المقارنة بين حاضر متغير ومثال أعلى يفترض إستمراريته وكماله، وبذلك فهو يفسح مجالاً واسعاً لتعدد التفاسير، فتلك المقاييس هي ذات مصداقية عالية لكن بدقة متدنية. ولا يخفى على المتابع العراقي تفاسير المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى المسيسة، حيث أن توقيت وحيثيات القرارات المصيرية تدل على مصالح سياسية معروفة وتشذ عن المفاهيم الشائعة في الديمقراطيات العريقة وتسبب الضرر للعملية السياسية لكن لا يمكن الحكم بأنها ليست ذات أصالة دستورية. ويدافع بعض القانونيين عن هذه الأحكام وعن شطارة القضاة الذين إستنبطوها وكأن القضاء قد خلق لخدمة الحكام ومصالحهم وليس لإقرار العدالة لمصلحة الشعب.

مقاييس السياسة

أما في السياسة فتبدو البدائل مجتمعة في باقات أو حزم متقاربة، مثلا السياسات الأشتراكية تؤدي أغراضا متشابهة والليبرالية والرأسمالية في باقات أخرى، وكل باقة تؤدي أغراض تختلف بعض الشئ عن مصلحة مجموع الشعب والتي هي الهدف المشاع بطرق مختلفة.

و المقارنة بين السياسات عموما لا تتم بالرجوع لما هو صحيح أو خطأ بل في المقارنة بين العوائد للحاكم أو لفئات معينة أو لعموم الشعب، فالتشابه في هذه الحالة يكون مع مفهوم الدقة العالية مع ضعف الرجوع لمفهوم المصداقية، وهذا هو مفهوم الوصول إلى القرار السياسي حسب النظرية المكيافيللية التي تحدد المقارنة بين البدائل السياسية بالرجوع إلى كمية المنفعة وتوقيت وصولها.

وهنا تبرز أهمية التعددية أو الليبرالية الديمقراطية، فالحزم ذات الدقة العالية تؤدي إلى تحقيق مصالح ضيقة إذا ما إستبد الحاكم ونجح في إستبعاد أحزاب المعارضة، لكن إذا تعددت وتوزعت الحزم حوالي نقطة المركز فإن محصلة عمل الحزم مجتمعة سوف تكون أقرب إلى المركز، إي أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة نظريا على الأقل.

إجتهادات

بين الدين والتدين: التدين هو الرجوع للدين في الفصل النهائي بين مباح ومباح

لكن الدين ضعيف التمييز،أي قليل الدقة، وقد لا يميز بين حلال وحلال ولا مباح ومباح آخر.

لذا فأن التدين إجتهاد وتفسير شخصي متحيز بالضرورة ولا يترتب عليه الفصل مع تفاسير صحيحة أخرى، وليس له الإدعاء بأن التفاسير الأخرى المرتكزة على ثوابت دينية فاقدة للمصداقية والسريان.

أي أن الفصل الأخير بين مباح ومباح هو عمل ذو تبعات نفعية يستوجب الدقة ويعود في النهاية إلى مقاييس السياسة أو التجارة أو ما شابه، لذلك فأن التدين في التمييز بين مباح ومباح هو إجتهاد ضعيف المصداقية.

مسؤولية التفسير: الدين حمال أوجه (قالها علي الوردي بهذخ الصيغة) ويستوجب التفسير. ,ظح.

والتفسير إجتهاد مفتوح نمارسه جميعاً في الواقع شئنا الأعتراف بهذا أم أبينا، أي أننا جميعا مفسرون لدرجة ما، إبتداءً من ممارسة حرية الإختيار لمرجعية أو مذهب يناسبنا، وطالما إتفقنا على الأصل القرآني فتفسيراتنا صحيحة لكنها ليست دقيقة ولن يستطيع أي منا الإدعاء بأن التفاسير البديلة ليست صحيحة مهما زاد إطلاعنا على الأمور الدينية.

ونحن نقبل بأن الرسول (ص) هو آخر الأنبياء، والإسلام ليس وحيداً في هذا، فالرسول في هذه الحالة هو آخر من ينفرد في تفسير الرسالة، والتعدد في التفسير هو سمة ما جاء من بعده، لذا فمن يدعي بأن تفسيره وحده هو الصحيح ويستوجب إتباعه فقد مارس التدين أو هو قد إدعى النبوة.

أترك تقييم التبعات لحكم القارئ…

Comments are closed.