الديمقراطية بين الإستحقاق الإنتخابي والنضالي
الإستحقاق النضالي يعمل تحت سطح الأحداث لكنه ذو ظواهر ودلالات واضحة، ولا نزعم أن المجتمعات الغربية المنفتحة تخلو منها لكنها محدودة ومحصورة في دائرة ضيقة من مناصب وإمتيازات لأشخاص قريبين من القادة أنفسهم من رؤساء وقلما تصل إلى نوابهم والوزراء والمدراء كما هو الحال عندنا. وكثيرا ما يلعب الإستحقاق النضالي دورا لا يستحقه في التعيينات والإمتيازات التي يغدق بها سياسيونا ونوابهم وأتباعهم على حسبائهم ونسبائهم.
لم يتوقع العديد منا هذا الإنتشار للمحسوبية والإستحقاق النضالي بعد الإحتلال لأن الفضل في الخلاص من حكم الدكتاتور لا يعود لنا ولم يساهم المناضلون العراقيون إلا في إدوار هامشية لا تبرر إستحقاقاتهم الواسعة وإبعاداتهم لكل من لا يتفق معهم في الدين أو في الإعتقاد السياسي، لذلك أعتقد البعض بأن الخلاص من طرف خارجي يساوي بين الجميع في الإستحقاق ويتيح الفرصة أمام الديمقراطية لكن سياسيونا ساروا في طريق آخر. فقد جائت الأحزاب التي لا ترى في الديمقراطية سوى وسيلة للوصول للحكم، وبعد أن تصل إلى سدة الحكم لا ترى أنها مدينة للديمقراطية التي جائت بها بشئ، بل تعتبر أن وصولها للمراكز القيادية هو تنفيذ لإرادة إلهية وليس بسبب حيازتها لثقة الناخبين الذين قد يسحبوها من تحتهم إذا لم يوفوا بوعودهم أو يسيئوا إستخدام سلطاتهم، ثم يستمروا بالحكم معتمدين على شرعية إلهية تشبه ملكة بريطانيا التي تستمر في منصبها الرمزي لمشيئة الله، أي بمنطق أن الله قد وهبهم الحكم بالإستحقاق النضالي ولو لم يكن مقدرا أن ينالوا الحكم لجاءالله سبحانه وتعالى بغيرهم، وهم في إستبدادهم وجرائمهم إنما يمثلون إرادة الله التي لا ترغب في إستقدام قائدا يقل عنهم شأنا ويعتقد بالإستحقاق الإنتخابي وليس النضالي.
أن علاج الوهم وجنون العظمة هذا ليس عند الأطباء النفسانيين، ولن يتمكن أي تعديل دستوري أو حكم قضائي بإحداث صدمة تعيد العقلانية لهؤلاء. بل أن الوهم الذي يعيشه سياسيونا له مبرر واقعي، فالعملية السياسية التي أدت إلى إنتخابهم جائت بثقوب عديدة وكانت ولا تزال مفتوحة أمام التأثيرات الخارجية، لذلك نرى حكامنا يتسابقون في كسب ود دول الجوار ولا يعيرون أهمية ولا إحتراما لرأي الناخبين، ولو حصلت التجاوزات التي تحصل لدينا في المجتمعات والدول الديمقراطية لما دام تكبر وغرور الحكومة لأكثر من دورة إنتخابية واحدة. والسياسيون يعون ويعتمدون على الدور الخارجي ويرون فيه المصداقية والعامل الأساسي في إستمراريتهم في الحكم والذي يفوق في أهميته سخط الناخبين وتظاهرات المعارضين.
والعلاج يكمن في إعتماد الإستحقاق الإنتخابي والرجوع إليه في حالات التعيينات في المراكز التي تستدعي الحيادية والنزاهة مثل القضاة واللجان الرقابية والمراكز الإدارية العليا، والمراكز التي تستدعي صفة مهنية يترك التعيين فيها للتصويت المفتوح في النقابة المختصة . لكن الأهم من كل ذلك هو ضمان نزاهة العملية السياسية بالأشراف الأممي المباشر، فالعقول التي تؤمن بأن المناصب السياسية جائت نتيجة لهبة إلهية وبديمومة وبالإستحقاق النضالي لن تتوانى عن المساس بالإنتخابات والتحالف مع من يشاركهم في إعتقاداتهم أينما وجدوا.