جذور الإنتهازية
الأنتهازية في المسرح السياسي العراقي ظاهرة جديرة بالأهتمام بسبب إنتشار تابعيها وسادتها ومقلديها، ومما يثير الأزدراء والنفور ومما يميز إنتهازية عصرنا هذا إستعمال الرموز الدينية من أجل الوصول إلى غايات مادية ومصالح ذاتية ومن أجل الإستحواذ على المال العام والفساد الإداري المنتشر إنتشارا غير مسبوق النظير. وحفزتني مقالة جيدة لحميد الكفائي بعنوان “الحسين إمام الإيثار والتضحية، أما الانتهازيون فليبحثوا عن إمام آخر” للكتابة حول موضوع الإنتهازية.
تذكرت حادثة لأحد أقربائي في أحداث الشغب في عام 1959 وقد لا تبدو ذات صلة بموضوع الإنتهازية لأول وهلة، فقد كان قريبي هذا عائدا من العمل حين إستوقفة مشاغب بيده آجرة (طابوكه) مهددا وسأله: أنت شيوعي لو بعثي؟ فرد عليه قريبي لست هذا ولا ذاك. قال المشاغب: مايصير، أنت لو شيوعي لو بعثي لو إنتهازي. فقال له القريب بإستسلام: أنا إنتهازي بس كف عني ولا تكسر زجاج السيارة..
العبرة هنا في قلة الخيارات التي يمليها المشاغب ومن ورائه الوضع الإرهابي الذي ساد في ذلك الوقت، وفي وقتنا هذا لا يختلف الحال كثيرا، فالخيارات محدودة والإنتهازية خيار يحمي صاحبه من الأذى مثل كسر الزجاج. لكن تساؤلنا هو: مالذي أدى إلى هذا الوضع السائد في كثرة الإنتهازيين؟ والجواب بكل بساطة يكمن في الإستحقاق، مالذي يحدده في نظراصحاب السلطة والقرار؟ والمشاغب يحمل سلطة التخريب وليس أمامه إلا تحديد ولاء الدخيل على ما يراه من إستحقاق لسلطته.
أنني أرى أن هنالك ثنائية لتحديد الإستحقاق السياسي والإداري في بلادنا، وقطباها المتصارعان هما بين الإستحقاق النضالي والإنتخابي، وهو صراع غير متكافئ فالإستحقاق النضالي هو الفائز التقليدي نتيجة لتعديات السلطة على مر العصور على نزاهة الإنتخابات، مما يفقدها مصداقيتها وفائدتها كأداة لتحديد الإستحقاق لشغل المناصب والإنتفاع من موارد الدولة والإشراف على إدارة مرافقها.
ونظرة سريعة على تاريخ العراق الحديث تصور لنا ديناميكية الصراع، فالعهد الملكي على الرغم من محاسنه العديدة وخصوصا في بداياته لم ينصف المعارضة اليسارية إنتخابيا بتبرير نضالي، ونرى أن أغلب التبريرات لتزوير الإنتخابات هي تبريرات نضالية، أي أن الجهات المهمشة لم تشارك في النضال ضد الحكم السابق والحرية والتمثيل للفائزين في النضال حصرا. وتلى ذلك حكم عبد الكريم قاسم الذي إستقوى فيه اليساريون الذين كالوا الصاع صاعين وهمشوا الملكيين والبعثيين والقوميين وكانت هنالك إنتهازية في جانب اليسار، وبعدها جاء البعثيون وهمشوا بدورهم وكانت الأنتهازية طريق النجاة وأسلوب الفوز بالمناصب أو على الأقل البقاء فيها في غياب أو تغييب المعارضة وحضور الإنتخابات الصورية، ونحن الآن في حكم ما بعد الإحتلال وممارسة إجتثاث البعث والإستحقاقات الطائفية والخطوط الحمرومن باب أولى أن تزداد الإنتهازية وتتضاعف نتيجة لإعادة فرز الأصوات، والتي أبعدت الجهات الغير مستحبة ومنها من مارس التهميش والتسلط في أوانه، و لا نستبعد تغيير حتمي آخر فدوام الحال من المحال لكننا نتمنى أن نصل إلى إستنتاج منطقي قبل ذلك، فإذا أردنا نهاية الإنتهازية فعلينا أن لا نهمش المعارضين ونعتمد الإستحقاق الإنتخابي لأن الإستقطاب والتهميش هما الأسباب الحتمية لتفشي الإنتهازية.