المقاييس السياسية بين الدين والعلمانية
السياسة والدين موضوع متشابك و يثير الكثير من الجدل هذه الأيام وقد تناوله الكثير من الكتاب والسياسيين والدعاة ولكن قلما يتطرق له أحد من زاوية علمية مجردة. وقد قرأت مقالة لمُنظر سياسي يخاطب زملائه من حزب الدعوة ويكتب تحت أسم أبو محمد بعنوان: لماذا أصبح إخواننا علمانيين، ويبدو أنها قد نشرت أوائل تشرين الأول أكتوبر 2010 . المقالة جيدة وذات معنى وتعكس هموم الكاتب من الفساد وعدم المحاسبة من قبل الجهات الحكومية، وهي بذالك حالة نادرة تستحق التقدير لصدورها من جهة قريبة من حزب السلطة وتعاملها مع هموم عامة بموضوعية وليس بأسلوب التملص أو ملامة جهات المعارضة، أو بتجريد الكلام من معانيه كما يحصل بأكثر مما يجب على الساحة العراقية.
يقول الكاتب ” استفادت فكرة العلمانية من ثغرة ..وهي غبش الرؤية لبعض القاديين..الذين فهموا خطأ فكر الدعوة القائل أن موقف الدعوة من الأحداث يقوم على أربعة اركان: 1-الحكم الشرعي 2- مصلحة الأمة 3- مصلحة الدعوة 4- الظروف والأحوال. وتصوروا (أي القياديون) ان هذه الأسس الاربعة بدائل يتنقل الداعية بينها ليختار منها ما يناسبه! ان خطا .. االقيادي ينبع من عدم فهمه ان هذه النقاط الاربع ليست بدائل يقفز من احدها الى الاخر عندما لا يعجبه واحد منها، بل هي دوائر متداخلة ملزمة على نحو التسلسل، أي اننا في تحديدنا لموقفنا من أي حدث ننظر اولا الى الحكم الشرعي لنلتزم به. “
واضح مما سبق أن الأستاذ أبو محمد يرى الأركان الأربعة كدوائر متداخلة أو مرشحات (فلاتر) ترتقي كميا لتلتقط الموقف المناسب في الوقت المناسب، أي أن الأركان الأربعة تختلف كميا، في حين أن القياديون يرونها تختلف نوعيا ولهم أن يختاروا إيا منها لما يناسب الموقف. ولتبسيط الفهم لدرجة أبعد نرى أن الأول يرى تحديد المواقف السياسية للدعوة كمرور الحبوب من فتحات المرشح (المنخل)، أوسعها هو الركن الشرعي ثم تتصاغر الفتحات فإن لم تتحدد مما سبق فلابد أن تحددها في الآخر إعتبارات الظروف والأحوال. وفي المقابل يرى القياديون إن كانت الشريعة تحدد المواقف عن طريق فصل الأحجام فأن مصلحة الأمة تفصل بين ألوان الحبوب ومصلحة الدعوة تفصل مثلا بناء على طعمها وهكذا..
رؤيتي المتواضعة ترى الشريعة الإسلامية وجميع المقاييس الدينية على وجه العموم بأنها تختلف نوعا وكما عما سواها من أركان تعتمد المصالح والظروف الوقتية. فالشريعة الإسلامية هي مجموعة من نحو 47 نصا قرآنيا تحدد الحلال من الحرام، وهي من الثوابت وهذا جزء من مسببات قدسيتها. والنصوص مقارنة بالعوامل الأكثر عددا التي تحدد مصلحة الأمة والدعوة وحتى بالنسبة للظروف والأحوال وهي ليست بنفس المقاييس، لذا لا يمكن شغل تنظيمات واسعة على مستوى معاصر بتحقيق الشريعة ولا مفر من أن ينتهي بها الحال بأساليب وممارسات أستبدادية وقمعية أقل ما يمكن القول عنها بأنها مضيعة للوقت ومسببة لعدم الإستقرار.
أما الإختلاف النوعي فأقول أن المفاضلة بين خيرين والمماثلة بين شرين ليسا من اختصاص الشريعة كما هو ليس من إختصاص أي مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية والدينية، فالمفاضلة تخضع دائما لعوامل وقتية ومتغيرات متعددة، في حين أن السياسة تنتقي أساسا الفروق والإختلافات بين البدائل الوقتية وتحدد الأولويات في الإنفاق وتوقيت القرارات. ناهيك عن الإعتبارات العملية في الممارسات الدينية وأختلافاتها النوعية عن مجالات السياسة التي تحتوي الكثير من الإنتهازية والكذب والمراوغة وهذه جميعها من عوامل البقاء في السياسة لكنها ليست ولا ينبغي أن تكون من المسموحات في الشريعة.
نرى أن الشريعة ومصلحة الأمة تختلفان نوعيا ولا يمكن للشريعة أن تتوصل لموقف سياسي بدون الرجوع الى المصلحة العامة، أما مصلحة الدعوة والظروف والأحوال بأن مجرد الأشارة لهما في أتخاذ القرارات السياسية هو إقرار بالذنب و خطأ سياسي فادح، فلا مجال لمصلحة الحزب في الدولة، أما الذي يسمح للظروف والأحوال بالتأثير على القرارات والمواقف السياسية فعليه ترك السياسة التي تعني بالمشاكل والمطالب العامة والتفرغ للعناية بمصالحه الخاصة والشخصية!
ومن أبسط ما يصور إقحام الدين بالسياسة في مشكلة تفسير الدوائر المتداخلة والبادئة بالشريعة هو تعريف الأمة في الركن التالي وهو مصلحة الأمة، فلو إعتمدنا الشريعة بالتعريف سنجد أن “الأمة” لا تحتوي على جميع مكونات الدولة، وإعتماد مصلحتها لا يحتوي على مصالح من لا يتفق مع اصحاب الدعوة. لذا نرى أن الفصل بين الدين والسياسة هو الركن المعتمد حفاظا على الدين أولا والسياسة ممثلة بالمصلحة العامة ثانيا.