السؤال غلط

بمناسبة ذكرى الإحتلال الثامنة أقدم هذه الكلمات تحية للشهداء العراقيين من المثقفين والأساتذة والأطباء الذين ذهبوا ضحية الغدر نتيجة للإحتلال والتدخلات الخارجية

المقارنات عديدة بين المجتمعات المتقدمة وفوضى مناطقنا وخصوصا مع العراق، والسؤال المنطقي الذي يلي هذه المقارنات هو: لماذا لم نبلغ ما بلغوه من تقدم وأين العيب؟ هل هو في قياداتنا أم في شعوبنا؟ أم هو في قيمنا أوديننا أو عاداتنا؟ والأجوبة التي تأتي عادة ما تكون على هيئة وصفة من نقاط عديدة مستحيلة التحقيق على أرض الواقع وتبدأ بالثقافة أو تربية الأطفال والأخلاق وتمر بظلم الحكام والفقر والحرية لكي تنتهي بالتوبيخ والإحباط والحقد على كل ما هو منتمي لمجتمعاتنا..

ولكي نبحث عما يفيد من معاني فلنبدأ بإعادة النظر على القيم التي تسود المجتمعات محط أنظارنا:فاليابان والسويد وربما جميع هذه المجتمعات لا ترى في الدين سوى ممارسات وطقوس شكلية لدرجة ما، فالياباني مثلا يؤدي طقوس الشنتو عند ولادة أبنائه وطقوس مسيحية عند زواجه وبوذية في حالات الوفاة ولا يرى حرجا في ذلك، فالمهم في الدين عنده ليس الأيمان وإنما الشكليات. في حين أن الثوابت التي تحدد هويته لدى الآخرين هي علاقته بالمجتمع والدولة، والأثنتان تتمتعان بالإستمرارية والوضوح والمصداقية. أما عندنا فالعكس هو الصحيح، أي أن العلاقة بين الفرد وخالقه التي لا يمكن لأحد أن يخضعها لمقاييس موضوعية هي التي تحدد علاقة الفرد بمجموعته، أما المجتمع والدولة والإنتخابات فهي بالحرف الواحد “تحصيل حاصل” عند الأفكار الشمولية ولا تؤدي إلا الى الضياع لأن جميع الإنتخابات محسومة مسبقا. أي أن الإلتزام الشكلي بالدين يحدد عندنا العلاقات الإجتماعية أما العملية السياسية فهي مجرد وسيلة لإنتزاع الهيمنة من الآخرين.

وكثير من المجتمعات المتطورة بعكس ما يدعي به المتهجمون على قيمنا هي مجتمعات إستعلائية مغرورة حتى على جيرانها، بل ومن الممكن الجدال بأن الإعتزاز بالمواطنة والتعالي على الأجانب والوافدين قد يساعد على حفظ النظام، وهذا يتنافى مع الكثير من الناقدين الذين يدعون لترك الإعتزاز بالإسلام أو العروبة أو العشائرية أو الكردية وكأنها هي السبب في تخلفنا. لذا علينا أن نستنتج بأن الإنتساب قد يكون هو أحد أسباب النظام أو إستمراريته.

ومن ناحية أخرى فنحن في العراق إذ لدينا القيم العشائرية ومنها التي تمجد الغزو والكسب الحرام والشجاعة لدرجة التهور والإنفرادية، لكن مجتمعنا خليط من المدني والعشائري وتجدالمتمدنين فينا وذوي الشهادات العليا وقد أصابهم ما أصاب العشائر من حمى الطائفية والفساد والتكالب على المناصب ولم يمنعهم عدم إنتسابهم العشائري وثقافتهم العالية من الإنزلاق في الفساد حالهم حال البقية.

فالسؤال عما يجب عمله من أجل الوصول بمجتمعنا الى حالة تشابه الآخرين هو سؤال عبثي ليس من الممكن أن يؤدي الى نتيجة مفيدة وهو يفترض إمكانيات مستحيلة وشروط لا يمكن توفيرها بدون أن نفقد شخصيتنا وتاريخنا ولا يسمح لنا بالإستفادة مما يميزنا عن غيرنا من أجل أن نحقق السبق.

والسؤال غلط لأنه يفترض أن الحصيلة النهائية من مجتمع فاضل هو كالوجبة الغائية يتم تحضيرها بخلط المكونات بطريقة معينة ثم تطبخ بطريقة ما وبعدها نجلس ونستمتع بمذاقها- لكن الواقع غير هذا فالمجتمع الجيد هو عملية متواصلة ونظام مراقبة وتحكم في المجرمين والمسيئين للمجتمع. والحل يكمن في مصداقية العملية السياسية وعمل الدولة إبتداء من تعداد السكان الذي ليس بمقدرة حكومة المالكي إجرائه ومصداقية الإنتخابات التي ضربت بها حكومة المالكي عرض الحائط وإلتفت على أهم الإتفاقات، لكن تغيير المالكي لوحده لا يؤدي بالضرورة الى الإصلاح فالخلل عندنا هو في العمليات السياسية وهذه العمليات هي الأهم في إرساء المحاسبة وتداول السلطة وهي الأساس في إحترام القانون والقضاء على الفساد وبدونها فأن الحديث عن الإلتحاق بركب الدول المتقدمة هو مجرد ثرثرة وقتل الوقت.

ومن هي الجهة المسؤولة التي عليها أن تعمل من أجل أن نخرج من المستنقع الي نحن فيه؟ أن قرار عدم القيام بتعداد السكان من بداية الإحتلال كان قرارا امريكيا حيث أن الحكومات العراقية المتعاقبة كانت قد طالبت بإجراء التعداد لكن سلطات الإحتلال كان لديها توجهات مختلفة، والآن وصل حال من التعقيد والتداخلات بين المجنسين من دول الجوار والتزوير من رجالات السلطة بحيث أصبح إجراء التعداد قنبلة داخلية موقوتة. مما لا شك فيه أن عدم وجود بيانات سكانية يخل بصورة مباشرة على الأمن ولنا أن نتسائل إذا كانت هذه النتيجة مقصودة من الأمريكان لكي تجتذب عناصر الإرهاب نحو العراق وبعيدا عن أراضيهم أم هو مجرد ترحيل للمشاكل المعلقة الى المستقبل بسبب سوء الأوضاع الأمنية التي هي في واقع الأمر تزداد سوءا؟

أننا الآن نستورد جميع ما نحتاجه من أكل وشرب ودواء وأفكار وقيم..الخ.. وأنني أتسائل لماذا لم نستورد ما نحتاجه أكثر من أي شئ آخر؟ لماذا لا نستورد مصداقية العملية السياسية؟ أن الإحتلال ودول الجواربتدخلاتهم وإملاآتهم قد أفقدوا من شعبنا الأمل في الإصلاح، فلا نتيجة ترى ولا بصيص نور في آخر التفق لما نحن فيه من ظلام وفساد. ما نحتاجه الآن هو المصداقية في العملية السياسية ولا سبيل لذلك إلا في تدويل التعداد والإنتخابات.

Comments are closed.